كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم يعطينا مثلًا توضيحيًا: {فَمَثَلُهُ كَمَثَل صَفْوَانٍ عَلَيْه تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدرُونَ على شَيْءٍ مّمَّا كَسَبُوا والله لاَ يَهْدي القوم الكافرين} [البقرة: 264].
فمثَل المرائي كهذا الحجر الناعم الأملس حين يصيبه المطر، وعليه طبقة من التراب يزيحها المطر، ويبقى هو صَلْدًا ناعمًا لا يحتفظ بشيء، ولا ينبت عليه شيء.
وهذا المثَل يُجسّد لنا خيبة سَعْي المرائي، وأنه مغفل، سعى واجتهد فانتفع الناس بسَعْيه، وتعدّى خيره إلى غيره، وخرج هو خالي الوفاض من الخير ومن الثواب.
ثم يذكر الحق سبحانه المقابل: {وَمَثَلُ الذين يُنْفقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغاء مَرْضَات الله وَتَثْبيتًا مّنْ أَنْفُسهمْ كَمَثَل جَنَّةٍ برَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضعْفَيْن فَإن لَّمْ يُصبْهَا وَابلٌ فَطَلٌّ والله بمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ} [البقرة: 265].
فالصدقة ابتغاء وجه الله كالأرض الخصْبة حين ينزل عليها المطر، فيأتي نباتها مضاعفًا مباركًا فيه، فإنْ لم يكُمْ مطر كفاها الطَّل لتنبت وتُؤتي ثمارها، ولو قال: كمثل جنة لكانت كافية لكنها {جَنَّةٍ برَبْوَةٍ} [البقرة: 265] يعني: على مكان مرتفع ليدلَّ على خصوبتها، فكلما كانت الأرض مرتفعة زادتْ خصوبتها، وخلَتْ من المياه الجوفية التي تؤثر على النبات.
وهذه الجنة تُرْوى بالمطر يأتيها من أعلى، فيغسل الأوراق والغصون، فتزيد نضارتها وجودتها، والأوراق هي رئة النبات.
والله تعالى يترك لآثار الذات في الناس تذكرةً وعبرة، فواحد يفعل الخير بآخر ليشتريه به، أو ليُخضع عنقه بهذا الجميل، فتكون النتيجة الطبيعية أنْ ينكر الآخر جميله، بل ويكرهه ويحقد عليه، وهذا جزاء وفاقٌ لمن عمل العمل لغير وجه الله.
وهو معنى قولهم: اتَّق شر مَنْ أحسنتَ إليه، لماذا؟ لأنه حين يراك يتذكر ما لك من يَد عليه، وما لك من فضل، فيخزي ويشعر بالذلة؛ لأن وجودك يدكُّ كبرياءه؛ لذلك يكره وجودك، ويكره أنْ يراك.
فالحق سبحانه يقول: احذروا أنْ تُبطلوا المعروف بالرياء، أو بالأغراض الدنية؛ لأن معروفك هذا سيُنَكر، وسينقلب ما قدمتَ، من خير شرًا عليك. إذن: عليكم بالنظر في أعمالكم إلى وجه الله لا إلى غيره، فإنْ حدث وأنكر جميلك فجزاؤك محفوظ عند الله، وكأن ربك- عز وجل- يغار عليك، ويريد أنْ يحفظ لك الجميل ويدخره عنده.
وهذا المعنى عبَّر عنه الشاعر بقوله:
أقُولُ لأصْحاب المرٌوءَات قَوْلةً ** تُريحهُمُ إنْ أحسَنُوا وتفضَّلُوا

يَسيرُ ذوو الحَاجَات خَلْفَكَ خُضَّعًا ** فَإنْ أدْركُوها خلَّفُوكَ وهَرْوَلُوا

فَلا تَدع المعْروفَ مهما تنكَّروا ** فَإنَّ ثوابَ الله أربى وأجْزَلُ

وسبق أنْ ذكرتُ قصة الرجل الذي قابلنا في الطريق ونحن في الجزائر، فأشار لنا لنوصله في طريقنا، فتوقف صاحب السيارة وفتح له الباب، لكنه قبل أنْ يركب قال على كام؟ يعني: ثمن توصيله. فقال صاحب السيارة: لله، فقال الرجل غَلّتها يا شيخ.
لذلك يقول بعض العارفين: إن الذين يريدون بأعمالهم وجه الله هم الذين يُغْلون أعمالهم، أي: يرفعون قيمتها، ويضاعفون ثوابها.
وقوله تعالى: {فَآت ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل} [الروم: 38] بعد قوله: {وَيَقْدرُ} [الروم: 37] يدل في ظاهره على أنه يأخذ منك مع أنك مُقلٌّ، وهذا يدخل في إطار قوله تعالى: {وَيُؤْثرُونَ على أَنفُسهمْ وَلَوْ كَانَ بهمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
وقلنا: إن الشارع حكيم، فإذا ألزمك وأخذ منك فإنما ذلك ليعطيك إنْ احتجت، وكأنه يقول لك: اطمئن فقد أمَّنْتُ لك حياتك، إن أصابك الفقر، أو كنت في يوم من الأيام مسكنًا أو ابن سبيل، فكما فعلتَ سيُفعل بك.
وهذه المسألة واضحة في كفالة اليتيم، فلو أن المجتمع الإيماني عوَّضه عن أبيه عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» لاطمأنَّ كلُّ أب على أولاده إنْ مات وتركهم؛ لأنهم في مجتمع يُعوضهم عن أبيهم بآباء كثيرين.
والإنسان إنْ كان آمنًا مُنعَّمًا، فإنما يُنغّص هذه النعمة أنها عُرْضة لأنْ تزول، فيريد الله أنْ يُؤمّن لعبده الحياة الكريمة في امتداده من بعده، وهذا هو التأمين الحق الذي أرسله الله قضية تأمينية في الكون، ليست في شركات التأمين، إنما في يده سبحانه حيث قال: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُوا منْ خَلْفهمْ ذُرّيَّةً ضعَافًا خَافُوا عَلَيْهمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَديدًا} [النساء: 9] فإذا اتقوا الله وقالوا القول السديد، فإن يتيمهم يصادف أناسًا يكفلونه، ويخافون عليه، ويتولَّوْن أمره.
وسبق أنْ تعرَّضْنا في سورة الكهف لقصة الجدار الذي تبرع الخضر- عليه السلام- ببنائه مع أنه في قرية أهلها لئام منعوهم حتى الطعام. وقلنا: إن سؤال الطعام هو أصدق سؤال، ولا يُرَدُّ سائله، ومع ذلك بناه الخضر، وقال في بيان أمر الجدار: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لغُلاَمَيْن يَتيمَيْن في المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالحًا} [الكهف: 82].
فصلاح الأبويْن ينفع الغلامين، فيُسخّر الله لهما مَنْ يبني لهما الجدار، ويحافظ لهما على كنزهما حتى يكبرا، ويستطيعا حمايته من هؤلاء اللئام الذين إذا علموا بأمره نهبوه من هذْين الصغيريْن.
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن الفارق بين الهدية والصدقة، فيقول: {وَمَآ آتَيْتُمْ مّن رّبًا لّيَرْبُوَ في أَمْوَال}.
الحق- سبحانه وتعالى- يعرف أن خَلْقه يفعلون الخير، ويطلبون الأجر عليه، لكن هذا الطلب إذا خلا من الرياء، لكن الحق سبحانه يريد أن يرتفع بالصدقة أو بالزكاة إلى مستوى عَالٍ، فيأخذ صاحبها الثمن من يد الله سبحانه مضاعفًا، وطلب الزيادات يكون في النية.
فالمؤمن مثلًا يعلم أنه إذا حُيّيَ بتحية فعليه أنْ يردَّها بخير منها، فقد يأتي فقير ويقدم لأحد الأغنياء هدية على قدر استطاعته، وفي نيته أنْ يردَّها الغني بما يناسب غنَاه، إذن: فهو حين أعطى يطمع في الزيادة، وإن كانت غير مشروطة، ويجوز أنْ يردَّ الغنيُّ على الهدية بأفضل منها، ويجوز ألاَّ يردَّها أصلًا.
فقوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مّن رّبًا} [الروم: 39] أي: الزيادة بأيّ ألوانها عما تعطي، وهذه الزيادة غير مشروطة في عقد، والزيادة تكون في المال، أو بأيّ وسيلة أخرى فيها نفع؛ لأنهم قالوا في تعريف الربا: كل قرض جَرَّ نفعًا فهو ربا.
حتى أن الإمام أبا حنيفة كان يجلس في ظل لجاره، فلما طلب منه جاره مالًا وأقرضه رآه الجار لا يجلس في ظل الجدار كما كان يجلس، فسأله عن ذلك فقال: كنت أجلس في ظل جدارك وأعلم أنه تفضّل منك، أما الآن فأخاف أنْ أجلس فيه حتى لا تظن أن هذه الجلسة للمال الذي أخذتَه مني.
فالمعنى: وما آتيتم من ربا تبغون به الزيادة سواء أكانتْ نفعًا، أو مالًا، أو غير مال، سواء أكانت مشروطة أو غير مشروطة. قالوا: فما حكم الهدايا إنْ رُدَّتْ بأحسن منها؟ وما ذنبي أنا المعطي في ذلك؟ قالوا: لا شيء فيها بشرط ألاَّ تكون في نيتك الزيادة، وألا تكون هديتك مشروطة، إنما تكون تحببًا وتوددًا ومعروفًا بين الناس، إنما لا تأخذ عليها ثوابًا من الله.
وقوله: {لّيَرْبُوَ في أَمْوَال الناس} [الروم: 39] في هنا للظرفية، فالمال ظرف، وما تضعه فيه ينقص منه، ويزيد ما عندك {فَلاَ يَرْبُو عندَ الله} [الروم: 39] يربو عندك أنت بالزيادة التي تأخذها ممَّنْ حيَّيْته، أمّا عند الله فلا يربو.
هكذا قال ابن عباس، وإن كان بعض العلماء قال: هي مطلق في الربا الأصل، وهذه مسألة كان يجب أنْ يُشرّع لها، لكن رأى ابن عباس أن آية الربا معروفة، وهذه للربا في زيادات التحية والمجاملات بين الناس.
ثم يقول سبحانه: {وَمَآ آتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ تُريدُونَ وَجْهَ الله فأولئك} [الروم: 39] أي: الذين يؤتون الزكاة ويريدون بها وجه الله {هُمُ المضعفون} [الروم: 39] ليست من الإضعاف، إنما من الأضعاف، فالزكاة أضعاف الفتح كما في قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعفَهُ لَهُ} [الحديد: 11] أما الربا فإضعاف بالكسر.
وهذه المسألة وقف عندها بعض المستشرقين الذين يحبون أنْ يستدركوا على كلام الله، قالوا: في القرآن آيات تصادم الحديث النبوي، فالقرآن يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعفَهُ لَهُ} [الحديد: 11]. إذن: القرض الحسن يضاعف به الله الثواب، وعندكم أن الحسنة بعشر أمثالها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مكتوب على باب الجنة: الحسنة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر» فلو أن القرض الحسن يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، فهو بعشرين لا بثمانية عشر.
فقلنا له: لو تصدقْتَ بدولار مثلًا فقد عملتَ حسنة تُضَاعف لك إلى عشر، لكن أردُّ إليك دولارك الذي تصدَّقْتَ به؟ لا، إذن حقيقة الأمر أنك أخذتَ تسعة تضاعف إلى ثمانية عشر.
قالوا: فلماذا زاد ثواب القرض؟ نقول: لأن المتصدّق حين يتصدق ينقطع أمله فيما قدَّم، لكن المقرض لا يزال مُعلَّق البال في القرض ينتظر ردّه، فكلما صبر عليه أخذ أجرًا، ثم إن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة، أما المتصدَّق عليه فقد يقبل الصدقة وهو غير محتاج إليها، وربما كان ممَّنْ يكنزون المال.
إذن: فالحق سبحانه يريد أنْ يُنمي القرض لماذا؟ قالوا: لأن الله يريد أن تسير حركة الحياة، وأنْ تتكامل، وأنت تعتز بمالك وتخاف عليه وتريد له النماء، وسوف تجد هذا كله في القرض، فاجعله قرضًا، فهو الباب الذي فتحه الله لك للزيادة وللثواب.
ثم إن الله تعالى احترم ملكيتك لمالك، وحرص على حمايته لك، فقال: {يا أيها الذين آمنوا إذَا تَدَايَنتُم بدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} [البقرة: 282].
فالله يحفظ عليك مالك لتهدأ بالًا من ناحيته، ومع ذلك يترك مجالًا لأريحية المعطي ومروءته {فَإنْ أَمنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّق الله رَبَّهُ} [البقرة: 283].
وبهذه الفلسفة الإيمانية يدور المال وتسير به حركة الحياة، بحيث يضمن لصاحب المال ماله، لأنه مُحبٌّ له حريص عليه، ويضمن لمن لا مالَ له أنْ يتحرك من مال الغير، فإذا كانت هناك أمانة أداء، فكل صاحب أمانة عليه أنْ يؤدّيها لمستحقها.
فإن اختلت هذه الموازين، وماطل الفقيرُ الغنيَّ، وضنَّ عليه أنْ يردَّ إليه حقه، فقد فسد حال المجتمع وانهارت فيه هذه القيم، وساعتها لا نلوم القادر على العطاء إنْ أمسك ماله عن المحتاجين للقرض ولمَ لا؟ والناس يأكلون الحقوق، وبذلك تتوقف حركة الحياة ويتراجع المجتمع عن مسايرة حركة التقدم.
فإذا كان الربا غير المشروط، وهو الربا في الهدايا والمجاملات والتحية بين الناس جعله الله للمودَّات وللمروءات بين الناس، لا يثيب عليه ولا يعاقب، وقال عنه {فَلاَ يَرْبُو عندَ الله} [الروم: 39].
أما الربا المشروط فقد وقف معه وقفة حازمة، وشرع له عقابًا وجعل هذا العقاب من جنس ما يضادّ غرض الذي رَابَى، فأنت ترابي لتزيد من مالك، فيقابلك الله بالنقصان {يَمْحَقُ الله الربا}.
[البقرة: 276] لماذا؟
قالوا: لأن المعطي غنيٌّ واجد، لديه فائض من المال يعطي منه، أما الآخذ فمحتاج، فكيف نطلب من المحتاج أنْ يزيد في مال الواجد غير المحتاج؟ وكيف تكون نظرة المحتاج إليك حين يعلم أن عندك مالًا يزيد عن حاجتك، ومع ذلك ترفض أن تُقرضه القرض الحسن، بل تشترط عليه الزيادة، فتأخذ الزيادة منه وهو محتاج؟
ثم افرض أنني أخذت هذا القرض لأثمره وأنميه فخسر، أليس كافيًا أنْ أخسر أنا عملي، وأنْ يضيع مجهودي؟ أمن العدل أن أخسر عملي، ثم أكون ضامنًا للزيادة أيضًا؟ هذه ليست من العدالة؛ لأن شرط العقد أن يحمي مصلحة الطرفين، أما عقد الربا فلا يحمي إلا مصلحة الدائن.
ونحن نرى حتى التشريعات الوضعية في الاقتصاد إذا أعطى البنك مالًا لشخص لعمل مشروع مثلًا ثم خسر وأرادوا تسوية حالته، أول شيء في إجراءاتهم أنْ يُسقطوا عنه الفوائد.
وهذا يوافق شرع الله في قوله تعالى: {وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رءوس أَمْوَالكُمْ لاَ تَظْلمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] {لا تُظلمون} بمعنى: أن نردَّ إليكم رءوس أموالكم؛ {ولا تظلمون} أي: لا نظلمك من ناحية أخرى، فنقول لك:
إنْ أردتَ أنْ تتوب فرُدّ ما أخذتَه بالربا بأثر رجعي؛ لأن ما أخذتَه قد صُرف وتصعب إعادته، وبذلك نراعي مصلحة الدائن حين نعيد إليه رأس المال، ومصلحة المدين، فلا نكلفه ردَّ مَا لا يقدر على ردّه.
وحين نتأمل هذه المسألة: آلدول أقوى أم الأفراد؟ الدول، أرأيتم دولة اقترضت مالًا من دولة أخرى، ثم استطاعت أن تُسدّد فوائد هذا الدين فضلًا عن أصل الدَّيْن؟ كذلك الأفراد الأقوياء الذين يأخذون القروض، ثم لا يسددون مجرد الفوائد، ولا يستطيعون جدولتها ولا تسوية حالتهم، فيقعون في خصومات ومشاكل.
شيء آخر، هَبْ أن رجلًا لديه مثلًا ألف جنيه ورجل لا عند له، صاحب الألف يستطيع أن يديرها، وأن يعيش منها، أما الآخر الذي لا يملك شيئًا فيقترض ليعيش مثل صاحبه، فإنْ قلت له: الألف قرضًا بمائة جنيه، فمن أين يوفر هذه المائة؟
إنْ أخذها من عائد المال يخسر، وإنْ أخذها من السلعة بأنْ يُقلل من الجودة أو من العناصر الفعالة في السلعة، أو في التغليف، جاءت السلعة أقلَّ من مثيلاتها وبارت. إذن: لابد أن يتحملها المستهلك، وهذا إضرار به، وهو ليس طرفًا في العقد، إذن: العقد باطل.
وحين نقول: إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان يجب أن نفهم هذه القضية جيدًا، وإياك أن تقول: إن الإسلام لا يصلح في زمان كذا، أو في مكان كذا.
والآن نسمع البعض ينصرف عن منهج الإسلام ويقول لك {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] أي: ليس في وُسْعه الآن تنفيذ شرع الله. لكن نقول له: مَن الذي يحدد الوُسْع؟ أنت أم المشرّع سبحانه؟
ما دام الله تعالى قد كلَّف، فاعلم أن التكليف في وُسْعك، فخذ الوُسْع من التكليف، لا أن تُقدّر أنت الوسع وتنسى ما كلَّفك الله به.
لذلك ترى أن الله تعالى إذا ضاق الوُسْع يُخفّف عنك دون أنْ تطلب أنت التخفيف، كما في صلاة وصوم المريض والمسافر. الخ وكما في التيمم إنْ تعذَّر استعمال الماء.
فلا معنى لأن نقول: إن تعاليم الدين لا تناسب العصر، إذن: اجعل العصر هو المشرّع، وانصرف عن تشريع السماء إلى ما يحتمله العصر.
لذلك قلنا: إن الحق سبحانه حينما يلقي تكاليفه يقول: {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام: 151] فمعنى تعالوا: ارتفعوا عن مستوى أهواء البشر، واعلوا إلى تكاليف الله، فإنْ هبطت بالتكاليف إلى مستواك، وقُلْت ظروف العصر تحتم عليَّ كذا وكذا فقد أخضعتَ منطق السماء لمنطق الأرض، وما جاء منطق السماء إلا ليعلو بك.
فإنْ نظرنا إلى مواقف العلماء من مسألة الربا، فمنهم مَنْ يُحلّل، ومنهم مَنْ يُحرّم وهم الكثرة، وهَبْ أنهم متساوون مَنْ يحرم ومَنْ يحلل، فما حكم الله فيما تساوتْ فيه الاجتهادات؟
النبي صلى الله عليه وسلم أوضح لنا هذه القضية في قوله: «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرْضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، 'ألا وإن لكل ملك حمىً، ألا وإن حمى الله محارمه».
فهل قال رسول الله: فمَنْ فعل الشبهات أم: فمَنْ ترك الشبهات؟ إذن: مَنْ وقع في الشبهات لم يستبريء، لا لدينه ولا لعرْضه، وهل يرضى أحد أنْ يُوصَف هذا الوصف؟ وعجيب أن نسمع مَنْ يقول: وما علاقة العرْض بهذه المسألة؟ نقول: والله حتى غير المؤمن بدين يستنكف أن يقال عنه أنه مُرابٍ، عرْضه لا يقبلها فضلًا عن دينه.
لذلك؛ فالمكارون الذين يريدون أن يُغلوها، ويريدون أن يعيشوا على دماء الناس لا يدرون أن النفعية هي القانون الذي يحكم الله به خَلْقه، فيجعل لهم الحسنة بعشر أمثالها، لذلك يقول اليهود: كيف تُحرّمون الربا والله يعاملكم به؟
نعم، الحق- سبحانه وتعالى- يعاملنا بالربا، ويعطينا بالزيادة؛ لأن هذه الزيادة لا تُنقص مما عنده سبحانه، أمّا الزيادة من الناس ومن المحتاجين فإنها ترهقهم وتزيدهم فقرًا وحاجة.
ثم دَعْكَ من هذا كله، وتأمل في المحيط الذي تعيش فيه، ففي كل بلد أناس يحبون الربا ويتعاملون به، أرأيتم مرابيًا مات بخير؟ أمات مرابٍ وثروته كاملة؟ لا، لأن الله تعالى لم يكن ليقول {يَمْحَقُ الله الربا} [البقرة: 276] ثم يترك مرابيًا ينمو ماله، ويسلم له إلى أنْ يموت، فإن اغتنى لحين، فإنما غنَاه كيد فيه، ومبالغة في إيذائه، كما جاء في الأثر «إذا غضب الله على إنسان رزقه من الحرام، فإن اشتد غضبه عليه بارك له فيه».
واقرأ قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكّرُوا به فَتَحْنَا عَلَيْهمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ حتى إذَا فَرحُوا بمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإذَا هُمْ مُّبْلسُونَ} [الأنعام: 44].
لذلك نسمع فلان ماهر في التجارة، فلان يضع يده في التراب يصير ذهبًا. إلخ.
وسبق أن أوضحنا الفرق بين فتحنا لهم و{فتحنا عليهم} لهم أي لصالحم بالخير، أما عليهم فيعني كيدًا لهم وتحديًا وإهلاكًا، فالله تعالى يعطي الكافر ويُوسّع عليه زهرة الدنيا، حتى إذا أخذه كان أخْذه أليمًا، كما قلنا: إنك إنْ أردت أنَ تُوقع عدوك لا توقعه من على الحصير، إنما من مكان عالٍ حتى يكون السقوط مؤلمًا.
وقوله تعالى: {حتى إذَا فَرحُوا بمَآ أوتوا} [الأنعام: 44] والفرح بالنعمة ليس ممنوعًا، لكن هناك فرح يُحب، وفرح يُكره، وإلاَّ فالحق سبحانه نسب الفرح للمؤمنين في قوله تعالى في سورة الروم: {وَيَوْمَئذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بنَصْر الله} [الروم: 4-5] وقال سبحانه: {فَرحينَ بمَآ آتَاهُمُ الله} [آل عمران: 170] وقال: {فَبذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] فأثبت لهم الفرح المقبول، وهو الفرح الذي يعقبه قولنا: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ثم تشكر الله الذي أنعم عليك، أما الفرح المكروه فهوالفرح الذي يُورثك بَطَرًا وأَشَرًا وكبرًا. اهـ.